تعرّض كاتب المقالة للاعتقال الإداري لمدة 4 أشهر بعد أحداث السابع من أكتوبر، وعقب استهداف الاحتلال للناشطين والأكاديميين الفلسطينيين، عايش فيها الكثير من الممارسات القمعية، والتي تتوزع على ليلة الاعتقال، والاستقبال في مراكز التوقيف، والتنقل عبر البوسطة، والمكوث في السجن
قد تكون ليلة الاعتقال الأصعب على المعتقل الفلسطيني، إذ يمعن فيها أفراد الجيش الإسرائيلي في التنكيل بالأسرى. فمنذ اللحظة الأولى، يتم اقتحام البيت وتحطيم محتوياته بشكل يرعب الأهل، ومن ثمّ تعصيب عينَيِ الأسير وتقييد يديه إلى الخلف بشدة، حتى ينحبس الدم في اليدين، مع زجّه في ناقلة جنود أو جيب عسكري مكتظّ بالأسرى. شخصياً، وُضعت فوق أسير ملقى على أرضية ناقلة جنود، وكان يعاني بدوره. وطوال الطريق إلى إحدى المستوطنات، وضع أحد الجنود ركبته على صدري، ما تسبب في صعوبة تنفسي، وعانيت من الاختناق، وخصوصاً أنّي أعاني من مشكلة في الرئة بعد إصابتي بفيروس «كورونا»، وأستخدمُ بخاخاً لعلاج الأزمة، ومع ضيق التنفس ظننتُ أني سوف أسلّم الروح.
عقب الوصول إلى المستوطنة التي نُقلنا إليها، وُضعنا في إحدى الساحات، تعرّضنا فيها للتنكيل والضرب والشتائم والبصق على الوجه، علاوة على تبوّل أحد الجنود على الأسير (ع. أ.)، ومحاولة خنقه. بعد ساعات مرّت كدهر كامل، نُقلنا إلى مركز التوقيف في «عتصيون»، وبقينا ساعات على الإسفلت في وضعية السجود، تحت أشعة الشمس، وكل من يتحرك نتيجة تخدّر جسده بسبب وضعية الجلوس، كان يتعرّض للضرب المبرح.
التقينا في مركز التوقيف في «عتصيون» بعدة أسرى كُسرت أطرافهم أو أضلاعهم بسبب ضربهم أثناء الاعتقال. لقد وُضعنا في غرف يوجد فيها أسرّة وفرشات مطاطية رفيعة (جومي)، مع نقص في البطانيات، أمّا الأكل فكان غير قابل للمضغ أو البلع لرداءته وعدم طهوه، ومعظم الأسرى لم يذوقوا منه شيئاً.
أثناء النقل من مركز التوقيف في «عتصيون» إلى سجن عوفر، تعرّض معظم الأسرى للتنكيل والضرب والإهانة، مع إجبارهم على إنزال الرأس إلى مستوى الركبة. وفي «عوفر»، كان الاستقبال بتجريد الأسرى من ملابسهم وتفتيشهم عراة، ومصادرة ملابسهم وأحذيتهم، وإبقائهم بملابسهم الداخلية (قضى معظمنا فترة سجنه بالملابس نفسها)، بعد منحهم ملابس الزيّ الموحّد لـ«الشاباص» وبابوج (شبشب).
سجن عوفر
دخلنا إلى غرف «عوفر» المكتظة، والتي كانت تتسع سابقاً لثمانية أشخاص، لكنهم كدّسوا بها 14 أسيراً (بالمتوسط)، من دون ملابس أو أغطية أو وسائل للنظافة الشخصية. بقينا 10 أيام لا يسمح لنا بالخروج للفورة، سوى مرة واحدة لمدة 15 دقيقة، من أجل الاستحمام، كون الحمامات خارج الغرف. كنا في «قسم 24» نسمع، يومياً، أصوات الضرب والتعذيب لمعتقلي قطاع غزة من العمال الذين سُحبت تصاريحهم، كانوا في القسم المجاور لنا، وكانت تسمع أصواتهم في كل تعداد للأسرى والذي يتكرر يومياً 3 مرات.
عايشت اقتحام وحدة «المتسادة» لإحدى الغرف في «قسم 24»، بلا أي سبب، لمجرد شكل من أشكال التدريب على القمع. أطلقت الوحدة في الاقتحام قنابل الصوت والرصاص المطاطي، فأصيب ثلاثة أسرى إصابات أدت إلى نزفهم، وبعد إخراج جميع الأسرى من الغرفة مكبّلين، وضربهم أمامنا، تم غسل أرضية الغرفة المليئة بالدماء.
البوسطة
أثناء تحضيرنا للنقل في «البوسطة» إلى سجن نفحة، اصطفّ جنود وحدة «النحشون» المسؤولون عن نقل الأسرى بصفّين. فبعد تكبيلنا بالأصفاد بالأيدي والأرجل تمّ «جرّنا» إلى الحافلات، ومن الجانبين كنا نتعرض للضرب بالهراوات وللكمات بالأيدي وللركل بالأرجل، مع الشتم والبصق والإهانات، والشدّ من اللحية والرأس. كدّسونا داخل زنازين صغيرة على متن الحافلة، التي يصعب التنفس فيها نتيجة قلّة الأوكسجين.
عند الوصول إلى «نفحة» ونزولنا من الحافلة، تكرر مشهد الصعود إليها نفسه تقريباً، مع تحريض الكلاب المدربة على مهاجمة الأسرى هذه المرة، وطبعاً تعرّض بعضنا لخربشات الكلاب كالأسير (م. خ.). ليتّضح لنا في ما بعد أنّ أيّ تنقل من غرفة إلى غرفة داخل السجن (باستمرار يتمّ نقلنا من قسم إلى آخر، ولا يوجد استقرار)، أو من غرف السجن إلى سجن آخر، أو لزيارة المحامي، أو حتى للمحكمة، كل هذا يعني بالضرورة التعرض للتنكيل والإهانة على يد السجانين.
سجن نفحة
أُدخل بعض الأسرى إلى غرفٍ أرضيتُها تفيض بمياه المجارير، والبعض دخل إلى غرف ليس فيها فرشات كافية، ولم نحصل على الأغطية والحرامات إلا بعد حوالي 15 يوماً من الاعتقال، مع مصادرة للوسائد. بقيتُ طوال فترة الاعتقال في الغرف، فلم أتعرّض لأشعة الشمس لأربعة أشهر، لا يوجد أي «فورة»، وهنالك عزلة تامة عن باقي الأسرى. ويمنع حتى التواصل بين الغرف في القسم نفسه، فالكلام بين الغرف قد يؤدي إلى قمعها، بل إن رفع الأذان للصلاة ممنوع، ويعرّض المؤذن للعقوبة، وبطبيعة الحال صلاة وخطبة الجمعة ممنوعة.
قطع كامل عن العالم الخارجي، ولولا وجود راديو «مهرّب» عند بعض الأسرى، لما عرفنا أي شيء عما يجري في الخارج. لكن الغرفة التي فيها الراديو ضبطت أثناء التفتيش، وتعرّض الأسرى فيها لعقوبة قاسية، تمثّلت بحرمانهم من الفرشات والأغطية لمدة أسبوع كامل. بعد حوالي شهرين من الاعتقال، نقلنا إلى قسم آخر، وفقدنا التواصل مع الخارج، صرنا نعتمد في تداول الأخبار على مجيء الأسرى الجدد، وبعض الأخبار التي تردنا كرؤوس أقلام من الأقسام المجاورة في السجن، التي ما زال فيها راديوات مهرّبة.
فيما لو تعرّض أحد الأسرى لطارئ طبي كالذبحة الصدرية فكما حصل مع الأسير (م. ص.) الذي كان في الغرفة المقابلة لي حيث جاء جواب السجان: «ماذا أفعل له... فليمت»
الرعاية الصحية
لا يوجد كشف طبي أو رعاية صحية، ويقتصر الأمر على تزويد أصحاب الأمراض المزمنة بأدويتهم، ولا يوجد طبيب أسنان، فمثلاً لو عانى الأسير من ألم شديد في أسنانه، فالعلاج هو مسكّن الأكامول «باراسيتامول»، وفيما لو تعرّض أحد الأسرى لطارئ طبي كالذبحة الصدرية، فكما حصل مع الأسير (م. ص.) الذي كان في الغرفة المقابلة لي، حيث جاء جواب السجان لنا بعدما نادينا عليه لطلب المساعدة: «ماذا أفعل له... فليمت». كانت مناداة السجان بمثابة مخاطرة منا، فالمناداة على السجان أو رفع الصوت في داخل الأقسام قد يعرّض الأسرى للقمع والرش بالغاز، ففي إحدى الحالات تعرضت غرفة في القسم للقمع والضرب والحرمان من الفرشات والأغطية لمدة أسبوع، لأن أحد الأسرى تصادف ضحكه على طرفة ألقاها زميله مع مرور أحد السجانين، فتم اتهامه بأنه يهزأ من السجان، وعوقب وقمع مع من في غرفته. بل إن مجرد إجراء حديث عابر مع السجان قد يتسبب بالقمع الذي قد يتطور إلى القتل، مثل ما حدث مع الأسير الشهيد ثائر أبو عصب في سجن النقب بعد قضائه أكثر من 16 عاماً في السجن، وكان أحد ممثلي الأسرى، فعندما سأل أحد السجانين، متى سيحصل وقف لإطلاق النار، كان جواب السجان: «سآتيك بالجواب بعد قليل»، وجلب معه 15 سجاناً أبرحوه ضرباً، وتسبّبوا بمقتله.
الأكل والمياه
لم يكن الطعام كافياً، ونوعيته رديئة، إذ يقتصر الفطور على بيضة مسلوقة مع أربع شرائح خبز، والغداء مقدار كأس صغير من الأرزّ الأبيض غير المملّح أو المبهّر مع أربع شرائح خبز، ونصف كأس شوربة باردة، قد تتضمن حمصاً أو فاصولياء بيضاء غير ناضجة، وقد يكون مع «الوجبة» حبة «نقانق» أو قطعة حبش صغيرة، أما العشاء فعبارة عن علبة لبنة صغيرة (50 غراماً) بمعدل ملعقتين وأربع شرائح خبز، وشرحة فليفلة، وحوالي خمس حبات زيتون، بمعنى أن «الوجبات» الثلاث تعادل حوالي 1600 سعرة حرارية (كيلو كالوري) في أحسن الأحوال، وهذا ما يبقي الأسير على قيد الحياة، لكنه لا يمنحه الطاقة الكافية. وبشكل عام، لا يوجد تنويع بالأكل، ومعظمه «نواشف» وأكل بارد، ما يتسبب بتلبك معوي، وإمساك شديد عند معظم الأسرى. شخصياً، وبعد أربعة أشهر من الاعتقال، فقدت 16 كيلوغراماً من وزني، نتيجة سوء التغذية.
أمّا المياه، ففي بعض السجون كالنقب تأتي المياه لمدة ساعة واحدة يومياً، ويسمح لكل غرفة بتعبئة قارورة بسعة ليترين ليشرب منها طوال اليوم 14 - 15 أسيراً. وفي ما يتعلق بالمياه الساخنة للاستحمام، فهي تقطع لمدة طويلة. أمّا سجن نفحة، فتأتي فيه المياه لمدة ساعة يوماً بعد يوم. وفي ما يتعلق بالنظافة الشخصية، فإن أدوات التنظيف والصابون والشامبو وورق التواليت شحيحة. كما يمنع مقصّ الأظافر (لذلك نضطرّ إلى تهريبه)، ولا توجد ماكينات وشفرات حلاقة، فمعظم الأسرى منذ 7 أكتوبر، لم يحلقوا رؤوسهم أو لحاهم أو يقصّوا أظافرهم. أما الملابس، فمعظم الأسرى لا يملكون ملابس شتوية، أو حتى ملابس داخلية بديلة، ويضطرّ معظمهم إلى غسل ملابسهم الداخلية والانتظار حتى تجف، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه يتم نشرها بعد غسلها داخل الغرف، فلا تتعرّض لأشعة الشمس، ما يجعل رائحتها عطنة بعد فترة.
الشرطة والمحاكم
في بداية الاعتقال، تم «جرّنا» إلى مقر شرطة «عوفر»، تعرّضنا خلال «البوسطة» للضرب والتنكيل، كان عددنا حوالي 30 أسيراً، وتم وضعنا في غرفة صغيرة لا تتسع لعشرة أشخاص في أقصى حد، كنا جميعاً واقفين (بسبب ضيق المكان لا يستطيع أحد الجلوس). بعدما عانينا من الاختناق نتيجة نقص الأوكسجين، تغلّبنا على خوفنا من استدعاء السجانين، وطرقنا على الباب لنطالب بإخراج المرضى وكبار السن، فتعرّضنا للضرب أولاً، ثم تم نقل كبار السن إلى غرفة أخرى، فأصبحت الغرفة أقلّ اكتظاظاً.
استدعيت إلى غرفة الشرطي، الذي واجهني بتهمتي وهي ممارسة التحريض، وأني ناشط في مقاومة الاحتلال. أنكرت التهمة، فطلب مني التوقيع على إفادة، كانت عبارة عن 3 أوراق مكتوبة باللغة العربية، تحوي نصاً جاهزاً مطبوعاً سلفاً، عبارة عن تهم جاهزة، متبوعة بإجابة «لا»، على سبيل المثال: «هل شاركت في مسيرات ضد إسرائيل، الجواب: لا» وعلى هذا المنوال، كانت بقية الأسئلة. لم تستمر جلسة الاستجواب لأكثر من 10 دقائق، أخبرني بعدها الشرطي بأنه قد صدر بحقي قرار اعتقال إداري لمدة ستة أشهر. بعد رجوعي إلى الزنزانة وحديثي مع باقي الأسرى، اتّضح لي حدوث السيناريو نفسه معهم، 3 أوراق جاهزة بالأسئلة نفسها مطلوب التوقيع عليها، وفي حال رفض المعتقل التوقيع، لا يكترث الشرطي، يخرج الأسير من الغرفة، وعقب ذلك تؤخذ عيّنات «دي أن ايه» من الأسرى، وعندما نطلب من الشرطي السماح لنا بالتواصل مع الأهل أو المحامي، يُرفض الطلب.
تُعقد جلسات المحكمة عبر الفيديو كونفرنس بواسطة جهاز كمبيوتر، ما يسمى محكمة التثبيت، التي كانت تعقد قبل 7 أكتوبر خلال أسبوع من الاعتقال، لكن محكمتي عقدت بعد 28 يوماً، وحدث الشيء نفسه مع العديد من المعتقلين، ولم يحضر فيها المحامي بسبب إعلان المحامين إضرابهم كاحتجاج على سلوك منظومة الاحتلال، وعدم التزامه بأي قانون، سواء في عملية التوقيف أو تمديد الاعتقال. رغم ذلك، عقدت المحكمة في أجواء شكلية كمحكمة صورية؛ قاضٍ يجلس أمام الشاشة، لا تسمع معظم كلامه، ولا يصلك سوى بعض الترجمة لما يدور في الجلسة التي تقرر مصيرك لنصف سنة قادمة. تم إبلاغي بأن قرار المحكمة سيصلني فيما بعد، وكما هي الحال مع بقية المعتقلين لم يصلني أي قرار، رغم طلبنا من مدير السجن إعلامنا بقرار المحكمة المعروف سلفاً انحيازها لطلب المدعي العام العسكري. بعد ثلاثة أشهر ونصف شهر من الاعتقال، أُخذت إلى محكمة استئناف، عرفت فيها أنه قد تم «تثبيت» القرار الإداري بحقي، وإخباري بأني معتقل لمدة 6 أشهر، في محكمة الاستئناف ترافعت عن نفسي لعدم وجود محام، وفي نهاية الجلسة التي لم تستمر أكثر من 10 دقائق أُخبرت (مرة أخرى) بأن قرار المحكمة سيصلني، لكن، وكما حدث سابقاً، لم يصلني شيء.
الإفراج
بعدما قضيت 4 أشهر في السجن، جاء السجان الساعة 5 مساء وأخبرني بأن أحضّر نفسي للنقل من القسم الموجود فيه. تم تقييد يديّ، وإنزالي إلى زنزانة انتظار، لأكتشف بعد نصف ساعة وجود قرار بالإفراج عني، ليتّضح لي في ما بعد أن محكمة الاستئناف قلّصت فترة اعتقالي إلى أربعة أشهر، ووافقت على طلب المحامي بالاكتفاء بالمدة التي قضيتها. طلب مني السجان نزع ملابس السجن (الشاباص) وتسليمها، وبقيت ببنطلون بيجامة داخلي وقميص خفيف، في شهر شباط البارد.
طالبت الضابط المسؤول بتسليمي أغراضي (الأمانات) التي أُخذت مني في بداية الاعتقال، بنطالي والجاكيت والحذاء، وكذلك مبلغ مالي وجهاز الجوال ومفاتيح، فتم إخباري بأنه لا يوجد موظف لتسليمي الأمانات، ويمكنني في ما بعد الحصول عليها عن طريق «الصليب الأحمر» الذي توجّهت إليه لاحقاً لأطالب بأغراضي، فتم إعلامي من «الصليب» بأنهم لا يملكون من أمرهم شيئاً، وأنهم ممنوعون من زيارة السجون، ولن يقدروا على جلب «أماناتي»، فقمت بتوكيل محامٍ للحصول عليها، وبعد حوالي أسبوعين من الإفراج، جلب المحامي بعضها لأكتشف سرقة المبلغ المالي الذي كنت أحمله (870 شيكلاً)، وعدم وجود الملابس والحذاء.
بالعودة إلى أجواء الإفراج، تم تقييدي من يديّ وفي قدميّ بأربع «كلبشات»، وزجّي في زنزانة بسيارة النقل مع أسير آخر، لنوضع بعد ساعتين من السفر على حاجز الظاهرية. حتى اللحظة الأخيرة من الإفراج، بقينا في حالة شد عصبي وترقب، خشية أن يتم تجديد اعتقالنا، كما حدث مع عدة أسرى، حيث تم الإفراج عنهم ووضعهم على الحاجز، وبعد ذلك أعيد اعتقالهم مرة أخرى، وذلك للالتفاف على قرار الإفراج، وليظهر الأمر كحالة اعتقال جديد، ستمرّ بالروتين نفسه، التوقيف وانتظار قرار المحكمة.
* زميل باحث في المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، أكاديمي ومختصّ بالشأن الإسرائيلي