تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
انقلاب شامل: أوضاع الأسرى في السجون الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر
مؤلف
اللغة

يواجه الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الإسرائيلي أوضاعاً مأسوية بلغت ذروتها في حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023. وقد مست هذه الأوضاع كل جوانب الحياة في السجون، من أسلوب التعامل مع الأسرى إلى ظروف الحياة والمعيشة وكميات الطعام ونوعيتها وغير ذلك.

ومع أن كل الأسرى في سجون الاحتلال يعانون جراء ظروف اعتقال مأسوية، فإنه يمكن القول إن هناك سجوناً أسوأ من الأُخرى من ناحية الأوضاع المعيشية والعنف الذي يتعرض له الأسرى، وخصوصاً سجن النقب.[1] فمن خلال تتبع شهادات الأسرى والتقارير الصادرة عن المؤسسات المعنية بهم، يتضح أن ظروف الأسرى تتباين من سجن إلى آخر بشكل طفيف، بيد أن مجمل الشهادات والتقارير الواردة عن أوضاع السجون بعد السابع من أكتوبر، تشير إلى أن هناك أوضاعاً مشتركة يعاني جرّاءها الأسرى في السجون كافة.

ومع أن هذه الأوضاع المأسوية شملت كل الأسرى، فإن معتقلي قطاع غزة، الذين اعتُقلوا منذ السابع من أكتوبر وخلال التوغل البري في القطاع، تعرضوا لظروف أسوأ وأقسى مما تعرض له بقية الأسرى الفلسطينيين، ولا سيما في معسكرات الاعتقال التابعة لجيش الاحتلال.

ستركز هذه الورقة على الصورة العامة للأسرى ككل، لأن ما يتعرض له معتقلو غزة يحتاج إلى معالجة جادة على حدة. وعليه، فإن هذه الورقة ستناقش جزءاً من التغيرات التي طرأت على واقع الأسرى في السجون، وأبرز الانتهاكات والظروف المأسوية التي يعانون منها. وهي تعتمد على شهادات الأسرى المفرَج عنهم، وتقارير المؤسسات الفلسطينية والحقوقية المعنية بالأسرى، ضمن منحى وصفي توثيقي بالدرجة الأولى. كما تتناول الصراع المستمر بين الحركة الأسيرة وسلطات الاحتلال بشأن حقوق الأسرى ومكتسباتهم، والتحولات التي طرأت بعد 7 أكتوبر، من تعذيب ممنهج وحرمان من الحقوق وظروف الحياة الإنسانية.

الانقلاب الشامل

استطاع الأسرى خلال سنوات طويلة، ومن خلال نضال مستمر شمل إضرابات عن الطعام واستنفارات داخل السجون ومواجهة مع السجانين، تحسين ظروف اعتقالهم، بالتدريج، وصولاً إلى حالة من الوفرة النسبية في مستلزمات الحياة الأساسية، من غذاء ومبلس ودواء وخدمات أُخرى. ودائماً ما يتردد على ألسنة الأسرى أن كل ما حققوه من مكتسبات قد "دُفع ثمنه دماً ولحماً"، في إشارة إلى شهداء الحركة الأسيرة وجرحاها والإضرابات عن الطعام الطويلة التي خاضوها.

إلاّ إن سلطات الاحتلال وإدارات السجون المتعاقبة حاولت، مراراً وتكراراً، انتزاع هذه المكتسبات والمنجزات من الأسرى. فمثلاً، في أواخر عام 1986، عُيّن دافيد ميمون، الحاكم العسكري السابق لقطاع غزة، مديراً لمصلحة السجون الإسرائيلية، وكان يحمل عقلية عقابية تجاه الأسرى تمخضت عنها سياسته التي عُرفت بـ"القبضة الحديدية"، للتضييق عليهم وانتزاع حقوقهم ومكتسباتهم، فما كان من الأسرى إلاّ أن واجهوا هذه السياسة بإضراب جماعي عن الطعام شمل السجون كافة، وانتقل صدى الإضراب إلى الشارع الفلسطيني، فتراجعت سلطات الاحتلال عن سياسة القبضة الحديدية تجاههم.[2]

وقد عادت هذه المحاولات إلى الواجهة مرات عديدة في السنوات الأخيرة، منذ "قرارات شاليط" عام 2009، و"لجنة أردان" عام 2018، وصولاً إلى تسلم الوزير المتطرف إيتمار بن غفير المسؤولية عن مصلحة إدارة السجون، عقب توليه منصب وزير الأمن القومي في أوائل عام 2023. فقد جاء بن غفير إلى منصبه رافعاً شعار إنهاء وضعية كون السجون "مخيمات صيفية للمخربين"، وهو ما تمخض عنه صوغ وزارة الأمن القومي خطة بعنوان "إنهاء الحكم الذاتي للأسرى في السجون". لكن اعتراضات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية خوفاً من أن يتسبب هذا الأمر بتصعيد في الأراضي الفلسطينية، حالت دون تطبيق هذه الخطة. بيد أن عملية "طوفان الأقصى"، في السابع من أكتوبر 2023، شكلت ذريعة لسلطات الاحتلال لإزالة كل القيود التي كانت تحول دون السير في خطة بن غفير.[3]

وقد شكلت السياسات التي فُرضت على الأسرى في السجون، منذ ذلك الحين، انقلاباً شاملاً على الوضع السابق في كل مناحي الحياة. مع الإشارة إلى أن دوافع الانتقام لدى السجانين ضاعفت من فداحة هذه السياسات، كما وفرّ بن غفير غطاء سياسياً للسجانين ليُمعنوا في إجرامهم بحق الأسرى.

سياسة التعذيب الممنهجة

تعدّ مسألة التعذيب والإهانات والإساءات التي يتعرض لها الأسرى في السجون من أبرز التغيرات التي طرأت على واقع هؤلاء منذ اندلاع الحرب، إذ تفيد شهادات الأسرى بأن التعذيب والعقاب تحولا إلى سياسة ممنهجة، تبدأ منذ لحظة الاعتقال من المنزل وتستمر خلال محطات الاعتقال كلها، سواء عند مدخل المعتقل، أو خلال النقل من قسم أو سجن إلى آخر، أو خلال المحاكمات وزيارات المحامي، أو حتى عند التحرر من الأسر.[4] وفي داخل السجون تعرض الأسرى لأبشع أنواع التعذيب، والضرب المبرح، والاعتداءات الجنسية، وجرى إطلاق الكلاب البوليسية عليهم، ورشهم بالغاز داخل غرفهم بدافع الانتقام، ما أدى إلى إصابة العديد منهم بإصابات خطرة. وقد أصبح السجانون يتعمدون استفزاز الأسرى بشتى الطرق والوسائل لينهالوا عليهم بالضرب، حتى لو لمجرد كلمة يتفوه بها الأسير، أو رفضه لأمر ما، مثل تقبيل علم إسرائيل أو ترديد أغان عبرية.[5]

وقد تحولت بعض اللحظات التي يحتك فيها الأسرى بالسجانين إلى محطات تنكيل وإهانة مستمرة. وتُعدّ عمليات الفحص الأمني إحدى أبرز محطات تعذيب الأسرى وإهانتهم، إذ يُجبرون على الجثو وطأطأة رؤوسهم ووضع أيديهم فوقها بهدف إذلالهم والتنكيل بهم. في حين يتعمد السجانون استفزاز الأسرى، فيستغلون أي حركة منهم للتنكيل بهم، ولينهالوا عليهم بالضرب المبرح.[6]

كما أصبح تنقل الأسرى بين الأقسام، أو بين السجون، أو خروجهم لزيارة المحامي، أو حضور المحكمة، محطات أساسية للتعذيب والضرب الوحشي،[7] فبالإضافة إلى التعذيب المباشر خلال التنقل، عمدت إدارة مصلحة السجون (فيما يلي الإدارة) إلى استخدام القيود كوسيلة تعذيب، إذ يُجبر الأسرى، عند زيارة المحامين أو الخروج إلى المحكمة، على السير مقيدي اليدين إلى الخلف، ومقيدي القدمين، ومعصوبي العينين. ولا تُفك القيود من أيديهم في غرفة الزيارة، وإنما يتم نقلها من الخلف إلى الأمام، ما يعيقهم من التحدث مع محاميهم لأنهم يواجهون صعوبة في رفع السماعة كي يتواصلوا معهم.[8]

ومن المهم الإشارة إلى أن كل ما يُعرف عن معاناة الأسرى، من تعذيب واعتداءات جسيمة، مصدره شهادات أسرى مفرج عنهم أو زيارات المحامين للأسرى في السجون، وما يُكشف ضمن هذا الجانب ليس إلاّ جزءاً بسيطاً من الواقع الذي يتعرض له الأسرى، لأن كثيرين منهم يمتنعون من الإدلاء بشهاداتهم، سواء للمحامين داخل السجون، أو بعد الإفراج عنهم، لأنهم يتلقون تهديدات مباشرة من السجانين بالعقاب في حال أفصحوا عمّا يتعرضون له في السجون. وقد تعرض العديد من الأسرى للتعذيب داخل السجون لأنهم أخبروا المحامي أو القاضي الإسرائيلي في أثناء المحاكمات بما يتعرضون له.[9]

الحرمان من كل ظروف الحياة الإنسانية

إلى جانب التعذيب والاعتداءات التي يتعرض لها الأسرى، فإنهم يعانون من حرمان في مختلف الجوانب المعيشية والإنسانية. وتعد هذه المعاناة حالياً معاناة مركبة، إذ إن كل جانب من الحرمان يفاقم معاناتهم في جوانب أُخرى. فعلى سبيل المثال، يؤدي الحرمان من وسائل النظافة الشخصية إلى تفاقم المشكلة بسبب عدم القدرة على تغيير الملابس، ما يجعل آثار قلة النظافة الشخصية أكثر حدة، وخصوصاً في فصل الصيف، والعكس صحيح أيضاً. ومن الصعب حصر كل أنواع المعاناة والحرمان التي يعاني منها الأسرى، إذ توجد بعض القضايا التفصيلية التي تخص كل أسير بشكل فردي أو كل سجن بشكل خاص. ومع ذلك، هناك قضايا مركزية يعاني منها جميع الأسرى، تشمل كل جوانب حياتهم في الأسر. وفيما يلي نناقش أبرز أوجه المعاناة داخل السجون منذ السابع من أكتوبر.

أولاً: الحرمان من الغذاء

يعاني الأسرى من حالة خطرة تشبه المجاعة في السجون، إذ تُقدَّم لهم كميات قليلة جداً من الطعام بنوعية رديئة. وعلى الرغم من اختلاف نوعية الطعام وكميته من سجن إلى آخر، فإن هناك إجماعاً على أن ما يُقدَّم لهم لا يسد رمقهم، ما أدى إلى فقدانهم عشرات الكيلوغرامات من أوزانهم وإصابتهم بأمراض معوية بسبب رداءة الطعام؛ فالإدارة لا تقدم للأسرى سوى بعض ملاعق من الأرز غير الناضج، وأنواع محددة من الشوربة، وشرائح الخبز، والبيض، بينما منعت تقديم اللحوم والخضروات والفواكه وغيرها من الأساسيات.[10] بالإضافة إلى أن كميات الطعام قليلة ورديئة بشكل عام، يتخذ الأمر في بعض السجون منحى أكثر خطورة، حيث إن وجبة الطعام المقدمة لعشرة أسرى لا تكفي أسيراً واحداً، وتصل رداءتها إلى حد انبعاث رائحة كريهة منها.[11] كما صودرت من الأسرى كل أدوات الطعام، من ملاعق وصحون وغيرها، واستُبدلت بملعقة بلاستيكية لكل أسير وصحن بلاستيكي لكل أسيرين، من النوع المخصص للاستخدام مرة واحدة فقط، لكن يتم إجبارهم على استخدامها لمدة أسبوع كامل.[12]

وإلى ذلك، أغلقت الإدارة "الكنتينا" في كل السجون والأقسام، وهي المقصف الذي يشتري منه الأسرى حاجاتهم من الغذاء وأدوات النظافة وغيرها من المستلزمات الضرورية التي لا توفرها لهم الإدارة. وما يزيد من معاناة الأسرى من ناحية قلة الطعام ورداءته، حرمانهم من إمكانية شراء الخضار والفواكه واللحوم وغيرها من الاحتياجات الضرورية بأموالهم الخاصة التي كانت تحوَّل إليهم من أهاليهم، الأمر الذي يشكل تهديداً صحياً خطراً عليهم، ولا سيما المرضى منهم؛ فمرضى السكري، مثلاً، بحاجة إلى أدوية ورعاية طبية متواصلة، وأيضاً إلى تغذية تتناسب مع وضعهم الصحي. وقد استشهد الأسير عرفات حمدان، 25 عاماً، في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وهو يعاني من مرض السكري، ورجحت عائلته أن يكون سبب استشهاده حرمانه من الدواء والغذاء المناسب لوضعه الصحي.[13]

ثانياً: الاكتظاظ

يعاني الأسرى من الاكتظاظ المفرط في الغرف والأقسام، وأفادت تقارير متعددة صادرة عن مؤسسات الأسرى الفلسطينية بأنه منذ اندلاع الحرب، ومع تصاعد حملات الاعتقالات، تحولت الغرف إلى زنازين يحتجز فيها 12 أسيراً[14] في بعض السجون، وفي أُخرى يصل العدد إلى 14 أسيراً، كحد أدنى.[15] وقد جاء هذا الأمر عقب إقرار الكنيست الإسرائيلي قوانين حالة الطوارئ، في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، والتي أجازت احتجاز الأسرى الفلسطينيين بما لا يتلاءم مع المعايير الأساسية للاحتجاز، ومنها تلك التي تكفل للأسير مساحة 3 أمتار، بحسب قرار المحكمة العليا الإسرائيلية عام 2017.[16] وبطبيعة الحال، فإن الغرف في الأقسام كانت مخصصة لاستيعاب عدد أقل من الأسرى، من 6 إلى 8 أسرى، حسب كل سجن، ولذا افترش العدد الفائض من الأسرى الأرض ليناموا عليها.

ثالثاً: تصفية المرافق العامة

أمعنت الإدارة في تضييق المساحات على الأسرى داخل الغرف والأقسام. ووفقاً لمحامي هيئة شؤون الأسرى والمحررين، خالد محاجنة، الذي زار عدداً من الأسرى في سجن عوفر في تموز/ يوليو 2024، حوَّلت الإدارة المرافق العامة في الأقسام، مثل غرفة "الكنتينا" والمغسلة والمخزن، إلى غرف لاعتقال الأسرى، واستحدثت فيها مراحيض.[17] وجاءت هذه الخطوة نتيجة خطة وضعتها الإدارة منذ بداية الحرب لتوفير غرف إضافية لاحتجاز الأسرى، نظراً إلى الاكتظاظ الذي تعاني منه السجون واستمرار حملات الاعتقال اليومية. وأطلقت على هذه الخطة اسم "خطة 888" نسبة إلى عدد الغرف المتوخى إضافتها في كل الأقسام والسجون عبر تحويل مرافق الأقسام إلى غرف اعتقال.[18] وتكمن خطورة هذه الخطوة في أن التغيير في أوضاع الأسرى سيكون طويل الأمد وجذرياً ويتجه نحو المأسسة، إذ إن حرمان الأسرى من المرافق التي كانوا يستخدمونها بطرق متعددة سيجعل الاكتظاظ في السجون أمراً دائماً. وهذا يعني انتزاع العديد من مكتسبات الأسرى التي راكموها عبر التاريخ النضالي الطويل للحركة الأسيرة، وأهمها إمكانية استخدام "الكنتينا" لتعويض النقص في الطعام والمستلزمات الشخصية التي كان الأسرى يقتنونها بأموالهم الخاصة، لأن الإدارة لا تقدم القدر الكافي من هذه المستلزمات حتى ما قبل السابع من أكتوبر. بالإضافة إلى حرمانهم من المكتبة التي كانت تُوضع في أحد تلك المرافق، ومن إمكانية غسل الملابس، ما سيكون له انعكاسات صحية عليهم على المدى الطويل.

رابعاً: الحرمان من المتعلقات الشخصية والجماعية

صادرت إدارة السجون من الأسرى جميع المقتنيات الشخصية، بما في ذلك الملابس، والأدوات الكهربائية، وأدوات الطعام، والكتب، والمصاحف، وغير ذلك. وأدى ذلك إلى معاناة شديدة، وخصوصاً بسبب قلة الملابس، بما في ذلك الملابس الداخلية، إذ لم يُترك للأسير سوى لباس واحد، وفي أحيان أُخرى كان هذا اللباس هو الزي البني الذي توزعه إدارة مصلحة السجون على الأسرى عند دخولهم إلى المعتقل. ونتيجة ذلك، هناك أسرى لم يتمكنوا من تبديل ملابسهم منذ اعتقالهم. وفي بعض الحالات، سُمح للأسرى بالاحتفاظ بلباس ثانٍ فقط. رافقت هذه المعاناة الأسرى خلال فصلي الشتاء والصيف؛ ففي الشتاء لم تكن الملابس تقيهم البرد القارس، وخصوصاً مع نقص السترات.[19] أمّا في الصيف، فقد تضاعفت المعاناة بسبب عدم توفر الملابس الصيفية في ظل ارتفاع درجات الحرارة وتصببهم عرقاً نتيجة تكدسهم في الغرف.[20]

بالإضافة إلى ذلك، حُرم الأسرى من وسائل النظافة الشخصية، مثل الشامبو، والصابون، وشفرات الحلاقة، ومقصات الأظافر، والمعقمات، والمنظفات، وغيرها. [21] ولم تمنح الإدارة الأسرى إلا ّكميات محدودة وشحيحة جدًا من أدوات النظافة، إذ يُمنح الأسير كيساً سعة 100 مل فقط لغسل الرأس والجسم والملابس، كما يُعطى لكل غرفة 2-3 لفافات من ورق الحمام كل 10 أيام، مع أن الغرف تحوي من 12-14 أسيراً كحد أدنى.[22]

كما يُحرم الأسرى من الاستحمام لأشهر، أو يُحدد لهم وقت قصير جداً للاستحمام. ولا تتحكم الإدارة في وقت الاستحمام ومدته فحسب، بل تتحكم أيضاً بدرجة حرارة الماء، وتستخدمها كوسيلة تعذيب إضافية. ففي الشتاء، يعاني الأسرى من برودة المياه، وفي الصيف، يعانون من سخونتها الشديدة، وهو ما أدى إلى إصابة بعضهم بحروق.[23]

خامساً: العزل عن العالم الخارجي

مارست الإدارة عدة سياسات أدت إلى عزل الأسرى عن العالم الخارجي، وحتى عزلهم عن بعضهم البعض؛ فقد منعتهم من الخروج إلى الفورة (ساحة القسم التي يخرج إليها الأسرى للتريض والتفاعل)، إمّا بشكل كامل وإمّا لوقت محدود جداً وبأعداد قليلة، وخصوصاً إذا كانت أماكن الاستحمام خارج الغرف. وقد رُسمت علامات على الأرض يُمنع الأسرى من تجاوزها وإلاّ تعرضوا للعقاب. ولا يُسمح بخروج جميع الأسرى إلى الفورة معاً، وإنما تُحدد الإدارة الغرف التي تخرج ومَن يرافقها. ويُمنع الأسرى من التحدث مع أسرى الغرف الأُخرى، وإلاّ تعرضوا للعقاب والتعذيب.[24] كما يُمنعون من أداء الصلاة الجماعية، وصلاة الجمعة، والأعياد مناعاً باتاً، ما يعني حرمانهم من التواصل الداخلي فيما بينهم.[25]

بالإضافة إلى ذلك، صادرت الإدارة من الأسرى كل الأدوات الكهربائية، بما في ذلك أجهزة التلفاز والمذياع، مما حرمهم من متابعة الأخبار العامة والخاصة. ومنعت الإدارة زيارات الأهل أو التواصل الهاتفي معهم، وقلّصت زيارات المحامين، الأمر الذي جعل الأسرى يخشون الخروج للزيارة لأنها أصبحت محطة تعذيب وإهانة، كما لا توجد أي زيارات للمؤسسات الدولية إلى السجون.[26] وتظل الوسيلة الوحيدة لمعرفة الأسرى أخبار الخارج أو عائلاتهم هي قدوم أسرى جدد ينقلون بعض الأخبار عن الأوضاع خارج السجون.[27]

الخاتمة

تسببت مجمل الأوضاع التي يعاني منها الأسرى بتدهور حالتهم النفسية والصحية، وانتشار الأمراض المعوية والجلدية والتنفسية فيما بينهم، وتهديد حياة الأسرى المرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة ويحتاجون إلى تغذية جيدة تتناسب مع حالتهم، مثل مرضى السكري وضغط الدم. ويترافق هذا مع الحرمان من الحق في العلاج والدواء والرعاية الصحية، ما يعني أن الأسرى يواجهون خطراً حقيقياً يهدد حياتهم. فمنذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى حزيران/ يونيو 2024، استشهد 54 أسيراً في سجون الاحتلال بسبب التعذيب والإهمال الطبي وتردي أوضاعهم المعيشية، معظمهم من أسرى غزة. [28] وعلى الرغم من عدم دقة هذا العدد نظراً إلى إخفاء سلطات الاحتلال أوضاع الأسرى في السجون، فإنه مرشح للزيادة بسبب تعرض الأسرى لإصابات وأمراض متعددة تؤثر في حياتهم بعد خروجهم من السجن.

ولذلك، يحتاج الأسرى إلى جهود شعبية ورسمية وحملات ضغط ومناصرة محلية ودولية لإنقاذهم من الخطر الداهم الذي يواجههم. ومن الواضح أنهم فقدوا قدرتهم النضالية داخل السجون، وقدرتهم على خوض إضرابات جماعية أو فردية احتجاجاً على تردي أوضاعهم، بسبب حالة القمع الإجرامية، ويقينهم بأن سجاني الاحتلال لن يترددوا في قتلهم إذا اتخذوا أي خطوة نضالية. وعليه، فإن مصير الأسرى وتحسن أوضاعهم مرتبطان بتفاعل الشارع الفلسطيني مع قضيتهم، من خلال حراكات أو هبّات أو انتفاضات، لأن هذا العامل كان الرادع للاحتلال لعدم استفراده بالأسرى قتلاً وتعذيباً وتجويعاً.

 

[1] "التعذيب والتنكيل بحق أسرى النقب هو الأخطر في السجون الإسرائيلية"، هيئة شؤون الأسرى والمحررين، 13/5/ 2024.

[2] انظر: تيسير نصر الله، "انتفاضة الجوع، الإضراب المفتوح عن الطعام في عام (1987م)" (أبو ديس: مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة، 2016).

[3] للتوسع في هذا الموضوع، انظر: أشرف بدر، "سياسات بن غفير ضد الأسرى والتحول بعد 7 أكتوبر"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 4/3/2024.

[4] أشرف بدر، " تجربة مع الأسر بعد 7 أكتوبر"، جريدة "الأخبار" اللبنانية، 20/4/2024.

[5] انظر: "أهلاً بكم في جهنم: تحول السجون الإسرائيلية إلى شبكة من معسكرات التعذيب"، بتسيلم، 4/8/2024.

[6] إحاطة صادرة عن هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني استناداً إلى أبرز الزيارات التي تمت لعدد من السجون مؤخراً، 4/3/2024.

[7] "أهلاً بكم في جهنم"، مصدر سبق ذكره.

[8] "كيف تنتهج إدارة السجون استخدام الأصفاد (القيود) وتعصيب العيون أداة للتنكيل بالأسرى وتعذيبهم؟"، جمعية نادي الأسير الفلسطيني، 28/3/2024.

[9] "أهلا بكم في الجحيم"، مصدر سبق ذكره.

[10] "ظروف حياتية صعبة وقاسية يواجهها الأسرى في سجن ʾجلبوعʿ"، هيئة شؤون الأسرى والمحررين، 28/5/2024.

انظر أيضاً: أشرف بدر، "تجربة مع الأسر بعد 7 أكتوبر"، مصدر سبق ذكره.

[11] التعذيب والتنكيل بحق أسرى النقب هو الأخطر في السجون الإسرائيلية"، مصدر سبق ذكره.

[12] "ظروف حياتية ومعيشية صعبة يواجهها الأسرى في سجن ʾمجدوʿ"، هيئة شؤون الأسرى والمحررين، 6/5/2024.

[13] "عائلة الشهيد الأسير عرفات حمدان توضح لوطن ظروف استشهاد ابنها وتحمل الاحتلال مسؤولية استشهاده"، وكالة "وطن" للأنباء، 24/10/2023.

[14] "ظروف لا إنسانية وتعامل وحشي يعانيه أسرى سجن ʿمجدوʿ"، هيئة شؤون الأسرى والمحررين، 16/7 2024.

[15] "تضييق الخناق على أسرى نفحة بوتيرة متصاعدة"، هيئة شؤون الأسرى والمحررين، 26/2/2024.

[16] للتوسع في هذا الموضوع، انظر: عبير بكر، "الأسرى الفلسطينيون وحالة الطوارئ الإسرائيلية"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، عدد 137 (شتاء 2024)، ص 100-108.

[17] "7 محاولات انتحار لأسرى في عوفر بسبب سياسات الاحتلال"، "عرب 48"، 28/07/2024.

[18] "الشاباص يعمل على إضافة أماكن اعتقال إضافية – من بينها غرف الكنتنية والطعام"، "كالكليست"، 2024/2/20 (بالعبرية).

[19] "إحاطة صادرة عن هيئة شؤون الأسرى والمحررين"، مصدر سبق ذكره.

[20] "ظروف صعبة يواجهها الأسرى في سجن ʾعوفرʿ"، هيئة شؤون الأسرى والمحررين، 12 /6/ 2024.

[21] "ظروف لا إنسانية وتعامل وحشي يعانيه أسرى سجن ʾمجدوʿ"، هيئة شؤون الأسرى والمحررين، 16/7 2024.

[22] "شهادات من الأسر"، المؤسسة الدولية للتضامن مع الأسرى الفلسطينيين، 11/7/2024.

[23] "ظروف صعبة يواجهها الأسرى في سجن ʾعوفرʿ"، مصدر سبق ذكره.

[24] "معتقلو سجن ʾريمونʿ يتعرضون لانتهاكات وعقوبات انتقامية مشددة"، هيئة شؤون الأسرى والمحررين، 22/4/2024.

انظر أيضاً: "ظروف حياتية صعبة وقاسية يواجهها الأسرى في سجن ʾجلبوعʿ"، مصدر سبق ذكره.

[25] المصدر نفسه.

[26] "التعذيب والتنكيل بحق أسرى النقب هو الأخطر في السجون الإسرائيلية"، مصدر سبق ذكره.

[27] أشرف بدر، "تجربة مع الأسر بعد 7 أكتوبر"، مصدر سبق ذكره.

[28] "بينهم 36 أسيراً من غزة: 54 شهيداً فلسطينياً في سجون الاحتلال منذ بدء الحرب"، "عرب 48"، 20/6/2024.

1

عن المؤلف

كريم قرط: باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية. حاصل على درجة ماجستير في الدراسات الإسرائيلية من جامعة بيرزيت.